أحمد سالم
الذكورة مسألة فسيولوجية بالدرجة الأولى، أما الرجولة فهي مفهوم ثقافي اجتماعي يتم بناؤه فوق الأساس الذكوري الفسيولوجي، والذين يقومون بالبناء هم الأسرة القريبة متمثلة في الوالدين وصولًا إلى الثقافة الكونية والقومية والوطنية، مرورًا بالعائلة والمدرسة والجيران والأصدقاء والأقران والرموز المجتمعية مثل لاعبي الكرة والممثلين وحتى الشيوخ والقساوسة..
وهذا الخليط الثقافي المعقد يخط كلماته بحروف متشابكة غير متناسقة فوق هذه البنية الذكورية، ويختلف تأثيره باختلاف الاستعدادات الوراثية وأهمية دور الشخص المؤثر وطبيعة الظروف المحيطة بعملية التأثير..
ومحتوى هذا الخليط لا يختلف بسبب اختلاف الأشخاص المقدمين له فقط وإنما يختلف بسبب اختلاف مرجعياتهم وتأويلاتهم لتلك المرجعيات..
المجتمع الغربي مثلا يتعامل مع ثلاثة أطر رئيسية للرجولة:
الأول: الرجولة في نطاق التهذيب المدني، والذي تأثر بأحداث الحرب العالمية مرورًا بالهجمة النسوية والانشغال الأبوي الطاحن ليكون نوعًا من التهذيب الأنثوي للرجل (وهذه النسخة منتشرة في العالم العربي فكثير من أشكال تهذيب الذكر تجعل منه إلى حد كبير مجرد فتاة مطيعة).
الثاني: ما يقدمه الجيش والنسخ المتفرعة منه وهي نسخة قاسية مسطحة وكان لها أثر كبير على الثقافة القيادية للشركات، وعلى عكس ما يظن الكثيرون فهذه النسخة لم تنتقل للجيوش العربية.
الثالث: ما يقدمه الشارع من تصورات عن الرجولة وهي قريبة إلى حد كبير من ثقافة الغابة.
في المقابل توجد محاولات غربية لاستعادة وبناء وتفعيل نمط صحي للرجولة خاصة من جهة بعض التيارات الكنسية..
في المجتمعات العربية، ونتاج تاريخ طويل لعلنا نرجع به للعسكرة المأجورة خاصة بداية من المماليك وتحول الشعب إلى فلاحين خاضعين لحكم عسكري، ثم احتكار العنف وسياسة التدجين المجتمعي للدولة الوطنية الحديثة= فلا يوجد أي برامج عملية أو طقوس انتقالية لغرس الرجولة وتنميتها، ولا يوجد أي أثر تقريبًا للدين أو الثقافة العربية القديمة كمصدر لمفاهيم الرجولة، بالعكس يتم الكذب على الدين لدعم تصورات شعبية قبيحة وسطحية وادعاء أنها رجولة، وهذه التصورات الشعبية المهترئة لا تملك حتى تماسكًا يسمح بتصنيفها كما صنعنا ما الأنماط الغربية، بل هي مجرد شذرات صحيحة بصفة عامة أحيانا مثل (الرجل ما يمدش إيده على ست) وفاسدة أحيانا مثل (الرجل ما بيعيطش) وحمقاء أحيانا مثل (الرجل ما بيطولش شعره).
بالتالي فلا يوجد أنماط متماسكة حتى لو خاطئة، وبالتالي فالذي لدينا هو نمط مشوه من شذرات متفرقة، ولا يوجد أي نموذج مفاهيمي فضلا عن أن توجد برامج إجرائية واقعية لغرس الرجولة وتنميتها..
والنتيجة هي أننا نشترك مع العالم في وجود النمطين المشوهين الأساسيين للرجولة، ثم نتفرد كالعادة بعدم وجود معالم للنموذج الصحي للرجولة..
والنمطان المشوهان هما:
(1) السمات النسوية التي قد لا تصل لحد التخنث الشكلي، لكنك لا ترى معالم للسمات الرجولية المركزية بل ترى نسخة خشنة قليلا من الفتاة المهذبة، الاعتمادية نسبيًا الحريصة نسبيًا المتحفظة نسبيا الهشة نسبيًا (وهي كمالات في النساء ونقص في الرجال).
(2) البلطجة والتسلط على الضعفاء واحتقار النساء والبطش والاعتداء واعتياد الفحش، وأصل بتستفز رجولتي، والأشكال القذرة المدعومة بالمجانص ومرايات الجيم في محاولة بائسة لاستعراض رجولة فارغة لشخص مهزوم.
وأنت إذا تصفحت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النساء عمومًا وآل بيته خصوصًا فلن تجد على لسانه ولا في أفعاله أي شيء يشبه حماقة هؤلاء البلطجية؛ لأنه كان رجلًا حقًا عليه الصلاة والسلام، بل سيد الرجال وأكملهم.
وأول الطريق لبناء تصور سليم وتفعيل ممارسات صحية للرجولة= يبدأ من استعادة سيرة رسول الله وجعلها معيارًا تبنى حوله لبنات مستفادة من سيرة أصحابه ومن أخبار العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ثم استخراج معالم برامج عملية متفرعة من تلك السيرة القديمة لأولئك الرجال النبلاء..
لو لم نسلك هذا الطريق فسنظل أسرى للتهذيب المنزلي الأنثوي الطابع والذي يولد على جانبيه نموذج التخنث الطري، ونموذج البلطجة في شكلها المدني من مجرمين الشوارع إلى شرطة اعتقال النساء وتهريب المغتصبين، وفي شكلها الديني متمثلة في الشيخ مجانص وتلاميذه الذين يرون في التحرش شكلًا من أشكال تحقق الرجولة..
مقتطفات أخرى
هناك مرحلة ما في حياة الإنسان يسلك فيها منعطفًا خاطئًا يخالف قيمه، ولسبب ما يتفرع هذا المنعطف إلى شبكة من الطرق الخاطئة يتيه فيها الإنسان فلا يعود بعدها إلى الطريق المستقيم إلا من رحم، والمكون الثابت في تلك النماذج الإنسانية: هو القدرة غير النهائية للشخص على تبرير انحطاطه وسفوله، وعلى إلباس ضلاله ثوب الهدى، وجنايته لباس البراءة.
لأجل ذلك يعتبر البعض أن أعظم مشاهد مسلسل ((Breaking bad)) على الإطلاق هو مشهد أواخر الموسم الخامس حين يتخلص والتر وايت من طبقات التبرير الكثيفة التي استمر يغطي بها جرائمه عبر حلقات ومواسم المسلسل؛ ليصل للمرة الأولى لاعتراف واضح وصريح بالدوافع الحقيقة لتصرفاته، والتي ليست أبدا مصلحة عائلته أو تأمين مستقبل أولاده، وإنما وفقط هذا السبب: نفسه، أنه واجد حياته في ذلك، وأنه وجد فيما يفعله قيمة ترضي كبره وغروره، كان هذا واضحًا من قبل لمن شاهد بعناية كيف يُستفز غرور والتر وتتضخم أناه حتى كاد يفضح نفسه لمجرد أن نسب مخدره لصانع آخر أو لمجرد توهم زوجته أنه مجرد موزع حشيش بائس، لكن هذه المرة الاعتراف سيد الأدلة.
قدرة الإنسان اللامحدودة على التبرير الذي يداري به دوافعه الحقيقة، جهاز التأويل المعقد والضخم الذي يملكه كل منا؛ ويستطيع به أن يطمر شهواته ونزواته وتحكم نوازع السوء داخله في أفعاله، هذه المداراة وذلك الكتمان الذي يصل في تعقيده وتركيبه حتى يخدع به الإنسان ذاته أحيانًا.
ولا يزال الولع بفكرة التطهر بالاعتراف مسيطرًا على صانع والتر وايت وسول جودمان، فنرى في خاتمة جودمان مشهد اعتراف آخر، حتى قرب نهاية الحلقة لم تكن بوادر الاعتراف تلوح في الأفق، مشهد مايك (فلاش باك) لا يرى سول أن هناك ما يندم عليه أو يود تغييره في ماضيه على عكس مايك الذي يود محو تجربة أول رشوة أخذها في حياته لأنها هي بداية المنحدر الزلق.
مشهد والتر وايت (فلاش باك) فيه ندم يناسب والتر في مرحلة المشهد، ندم على أنه قد خُدع ونزع منه استحقاقه، أما سول فيندم على أنه انزلق في اللعب فأصاب نفسه.
ثم ينتهي كل هذا باعتراف لم يُمهد له ظاهريًا، وربما يرى البعض أنه لم يُمهد له بالكلية.
بقطع النظر عن الصفات والصور الخاصة= يملك الاعتراف بالخطأ قداسة كبيرة في معظم الأديان والثقافات.
في الوحي المحفوظ والكتب المحرفة، في أعمال الفنانين ونصوص الأدباء وأفكار الفلاسفة وحتى في السرد السينمائي= لا أكاد أحصي كيف تٌسبغ الجلالة على كل واقعة يتخلى فيها الإنسان عن قدراته التبريرية ليقف معترفًا بخطئه عاريًا من كل لباس زور اعتاد أن يٌجمل به أخطاءه.
تاريخ الإنسانية كله يمكنك أن تقرأه من زاوية هذا التقابل: ذنب إبليسي مغلف بالتبرير والمكابرة والنكران، وذنب آدمي غسله الإقرار والندم وطلب الصفح والغفران.
المكابرة الشخصية وعدم الاعتراف بالنقص والعيب مريح للإنسان، ومواجهة الذات والصدق معها والإقرار بنقصها وعيبها وقبح فعلها مؤلم جدًا، ولولا أن الإنكار مريح والصدق مؤلم= لما كان هذا هو حالنا وحال الناس.
وقد أيقنت أن من أعظم الرزق أن يرزقك الله القوة على الصدق مع نفسك، وأن يعينك على احتمال السوء الذي ستراه منها، وأن يدلك على الطريق الذي به وحده تحصل المداواة، أن ترفق بتلك النفس وترحم ضعفها وتفهم السياقات التي أدت بتلك النفس لحالها الذي تكرهه منها، ثم تسأل الله الإعانة بحوله وقوته، وتأخذ بيد نفسك، فتصيب مرة وتغلط أخرى، وتقوم مرة وتسقط أخرى، وتقطع الأمل في الناس إلا من ناصح صادق ومحب مشفق، وهم قلة لا تكاد تجد منهم أحدًا؛ فإن الناس لا يسترون عورة ولا يشكرون خيرًا إلا من رحم الله، ولو تركنا الله لمدح الناس وذمهم لهلكنا، ولكنه علمنا سبحانه أنه وحده حمده زين أهل أن تتزين به، وذمه شين أهل أن تخشاه وتفر منه، ثم إنه سبحانه لا يحاسبنا إلا حساب كريم يرحم مقام الضعفاء الذين لا يجدون إلا جهدهم.
اللهم إنك تعلم أن كلامي هذا لم أكتبه إلا ألمًا من ضعف نفسي ونقصها فارحمني وأعني.
مهما بلغت شراسة الفنون القتالية فإنها جميعًا تشترك في اشتراط القتال الشريف بلا خسة ولا غدر.
لما ابتكر جيش الاحتلال فنًا قتاليًا وهو الكرافاماجا، ابتكروه فنًا يستهدف المناطق الحساسة في الجسد، وهو الفن الوحيد الذي يبيح مباغتة الخصم والغدر به وضربه من الخلف.
حتى الفنون القتالية تكشف عن الدناءة والخسة المتأصلة والعريقة في هذا الجنس الحقير المغضوب عليه.