أحمد سالم

أحمد سالم

إن سرَّ الوجودِ الإنساني ومبرره ليس في  إرادةِ الحياة، بل في الحاجة إلى معرفةِ السببِ الذي يدعو الإنسانَ إلى الحياة. فالإنسانُ ما لم يكن على يقينٍ من هدفِ حياته، لا يقبل أن يوجدَ في العالم بل يؤثرُ أن يدمّرَ نفسه.

دوستويفسكي- الإخوة كرامازوف.

مشاركة

مقتطفات أخرى

تسأل السيدة ف . ف من القاهرة فتقول: إنه قد ترتب على سوء معاملة والدي لي، الذي توفى ولوالدتي؛ مشاكل نفسية، عانيت منها طويلا، ولذلك اضطررت إلى أن أعالج عند طبيب نفسي، واضطر إلى أن أذكر له المعاملة السيئة التي لقيها من والدي، وهذا يؤلم ضميري ... فهل هذا حلال ام حرام؟


الجواب: أولا: ما معنى العلاج؟ إنها كلمة تؤدي معنى المحاولة، فنحن إذا أردنا أن نخلع مسمارًا مثلا، فإننا نحركه أمامًا وخلفًا ويمينًا ويسارًا، ونكرر هذه الحركة لمحاولة الخلع، أو معالجة الخلع.

إذن فالعلاج هو المحاولة للوصول إلى هدف بأسباب .. والطب يعالج ولا يشفي، فهو يحاول أن يأتي بالأسباب، لعل سبيًا يُصيب الداء فيشفى المريض، وعندما عجز الطب عن إدراك سبب عضوي للمرض قالوا عنه: إنه مرض نفسي. أي إن السبب في هذا المرض مجهول لنا.

وتبين لنا بعد ذلك أن كثيرًا من الأمراض النفسية تتسبب عن اختلال في أجهزة الجسم، لكننا لا نعرفها، مثل غدة صغيرة جدا في حجم حبة السمسم، وعندما يحدث اختلال في إفرازها تسبب اكتئابًا نفسيًا أو أي مرض آخر. وقديمًا لم يكن العلم قد توصل إلى أن كل انفعال أو إدراك في الحياة البشرية إنما يترك أثرًا عضويًا على جسم الإنسان، ولكننا لا نعرف تمامًا هذا الأثر، لأن في الإنسان أجهزة بلغت من الدقة حدًا لا نكاد معه أن نتبينها. وإذا اختل توازنها انقلبت الموازين.

فعندما يتعرض الإنسان لصدمة تتأثر تلك الأجهزة، فتنقبض، فإذا استطاع الطبيب أن يتحدث مع المريض ليكشف سبب الصدمة، ويوضح له وهمه، انبسط الجزء المنقبض مرة أخرى.
إذن فإن كل تأثير على الكائن الحي بفيد شيئا في كيمائيته، وقد لا ندرك ذلك في حينه، إلا أنه يحدث فيه اختلالا، ولا ضرر في أن أعالج هذا الاختلال مطلقًا.

وثانيًا، ذكر ما أصاب السائلة من سوء معاملة الوالد المتوفي للطبيب لا ضير منه ما دامت تعتقد بذلك معاونة الطبيب على تشخيص المرض .. والمنهي عنه هو قصد التشفي، أو تبرير عدم البر بالوالد.

الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله.

اقرأ المزيد

الأم تفتح درج الثلاجة ذات الباب الصدئ وتلقي نظرة :
-لا توجد طماطم یا عفاف .. اذهبي إلى السوق وهاتي لنا كيلو ..
توترت عفاف لأنها لم تعتد شراء أشياء.. لكنها كبرت ومن الواضح أن مسؤولية السوق سوف تنتقل إليها بالتدريج ..
الآن تتلقى التعليمات: لا بد من أن تسألي أكثر من بائع عن ثمن الكيلو.. لا تشتري من أول السوق بل توغلي بالداخل قليلاً لأن الأسعار أرخص.. لا تأخذي الكلام من فم البائع فلابد من الفصال..
سوف يسألك إن كانت الطماطم للطهي أم للسلطة.. اكذبي وقولي إنها للسلطة وإلا خدعك وأعطاك كل الطماطم التالفة عنده بدعوی أنها تنضج أسرع.. لتكن حمراء خالية من الثقوب والتشوهات..
اعرفي السعر جيداً...
هكذا غادرت عفاف الشقة وهي مفعمة بالمسؤولية والأسرار، وفي يدها الحقيبة المصنوعة من الليف المجدول، وهي تدل على مسؤولية عظيمة...
عفاف الصغيرة كانت تجوب السوق بحثاً عن طماطم بسعر أرخص ..
كانت تتلقى الدعوات من الجانبين، بينما هي تحاول الابتعاد عن برك الوحل وعن الكلاب الضالة، وتحرص على ألا تدهمها الدراجات ..
كانت هناك عربة كشري، وقد وقف البائع يقلب الكشري في أطباق معدنية صغيرة، مصراً على أن يقرع حافة الطبق بقوة بالملعقة.. يتحرك بسرعة فائقة ليوحي بالانهماك والاحتراف ، بينما وقف بعض الآكلين يلتهمون الكشري بسرعة لا لزوم لها..
بدت لها الرائحة شهية فعلاً .. لكنها كانت تدرك المسؤولية على عاتقها وأنه ليس بوسعها أن تتباطأ.. أمها تنتظر ..
كان هناك ذلك الرجل الغليظ البدين المشعر يرتدي جلبابا متسخاً، ويقف خلف طاولة عليها أشكال وأحجام من الطماطم.. لاحظت أن لديه عيناً تالفة، وأن هناك جرحاً تحت عينه اليسرى. هناك كشك من خلفه ومظلة عملاقة مثبتة بالحبال وكلب يغفو في الظل.. باختصار:
كل لوازم بيع الطماطم.
- تعالي خذي طماطم يا شاطرة.
لم تكن تريد الشراء من هنا بالذات، وكادت تبتعد لكنه قال باصرار:
- تعالي .. أنا أعرف ما تريدين .
حاولت الابتعاد، لكنه خرج من وراء الطاولة وأمسك بالحقيبة ذات الليف المجدول.. يبدو أن نظرة الباحثين عن طماطم مميزة ويبدو أنها مرسومة على وجهها.. في مكان ما من العالم أمة من المتلهفين على الطماطم.. وكلهم ينظرون ذات النظرة.
- هل تريدينها للطهي أم للسلطة؟
- للسلطة .
- طيب .
وحمل الحقيبة ودار حول الطاولة ليتجه إلى الكشك الخشبي :
- تعالي لتأخذي ماتریدین.
متوجسة اتجهت إلى حيث طلب منها وهي تشعر بأن هناك شيئاً خطأ .. عصام رأى المشهد حيث وقف على بعد أمتار، وقد قدر أن شيئاً شنيعاً يحدث ، لكن خياله لم يبلغ هذه الدرجة، كما أنه لم يعرف ما يفعله بالضبط ..
كان الكشك مظلماً قذراً، وثمة قطة راقدة تنظر إليها في شك..
قبل أن تخرج كان هو قد سد الكشك بجسده الضخم.. لم تفهم إلا أنه قبلها في شفتيها بنهم حتى أوشك أن يعضهما، وشمت رائحة أنفاسه الكريهة ولعابه.
ثم شعرت بتلك اليد الغليظة تمتد إلى صدرها الذي ما زال مسطحاً کالرخام وتعبث هنا وهناك.
استغرق هذا التعذيب نصف دقيقة، لكنها شعرت بأن عمراً کاملاً قد مر عليها هناك، وتساءلت إن كان هذا سينتهي أصلاً أم أنه مستمر إلى الأبد.. فتحت فمها لتصرخ..
هنا شعرت بذات اليد تجذبها خارج الكشك.. التقت عيناها بعصام للحظة فرأته ينظر إليها بقلق لا يقل عن قلقها..
اليد تقوم بتعبئة الطماطم في كفة الميزان كأن شيئاً لم يكن :
- کیلو یا شاطرة؟
ثم الطماطم توضع في كيس بلاستيكي. لم يطلب منها ثمناً كأنه نال أجره فعلاً. وبعد دقيقة كانت تبتعد مترنحة كأنها خارجة من حانة.. رأسها يدور ووعيها ليس على ما يرام.. لا تستوعب ما حدث.. ولاتعي أين هي بعد لحظات استجمعت الرؤی. عادت الصور تحمل معنی وعادت الأصوات تقول شيئاً ما.
فطنت إلى أنها تعرضت لاستغلال بشع.. لم تكن تفهم هذه الأمور، وبالتأكيد لم يكن الجنس ضمن مفردات عالمها.. لكنها فطنت إلى أنها اُستخدمت كشيء، وأن التجربة كانت مقرفة جداً..
صحيح أن الرجل قبلها وتحسس جسدها فقط، لكن هذا مقرف بما فيه الكفاية. وصمة.. عار.. يمكنها فهم هذا بالطريقة التي تفهمها طفلة في سنها. لا شك أن أنامله ستبقى ظاهرة على جلدها إلى الأبد...
مسحت آثار اللعاب عن شفتيها وخديها بكمها، وشعرت بأنها ترغب في القيء ..
اتجهت إلى جدار وراحت تبصق وتبصق وتبصق. فلما انتهت كانت قد تعلمت شيئاً عن نفسها: هي لا تترك حقها أبداً ولا تتنازل..
لقد عبث بها ذلك الحلوف لكنها تعرف كيف تنتقم..
ألقت بالطماطم على الأرض.. ثم عادت بخطوات ثابتة إلى الكشك الذي نصبت الطاولة أمامه.. وقفت من بعید تراقب الرجل وهو يزن الطماطم للزبائن ويبدو لطيفاً جداً.. تعرف هذا السلوك جيداً.. كانت زوجة خالها تشتمها وتزدريها فإذا ظهر خالها استحالت إلى ألطف كائن في الوجود. كان منهمكاً.. ينادي بضاعته في فخر، ويكوم أوراق المال في يده..
ثم إنه بدأ ينقل الطماطم من قفص كبير إلى قفص أصغر.. لهذا اضطر إلى أن يجلس القرفصاء على الأرض ويحني و رأسه..
في ثبات اتجهت عفاف إلى الميزان..
مدت يدها لتتناول سنجة ثقيلة لا بد أنها كانت تزن كيلو جراماً.. حملتها في ثبات واتجهت لتقف خلف الرجل وهو منهمك.
إما الآن وإما أن تضيع الفرصة للأبد ولسوف يفتك بك.
حملت السنجة بكلتا يديها ثم هوت بها على مؤخرة رأسه الخالية من الشعر... لا شك أنها ضربة غير قاتلة ولم تؤذه أو تحدث جرحاً ، لكنها بالتأكيد آلمته جداً.. وبالتأكيد ستكون هناك « بطحة » بارزة ترافقه عدة أيام.
صرخ.. وقبل أن ينظر إلى الخلف كانت تركض كالهر الصغير متوارية وسط الزحام.
سمعت صخباً وسمعت من يسبها بأنها ابنة الزانية، لكنها كانت تعرف أنهم لن يجدوها.. دعك من أن أحداً لا يعرفها هنا.
كانت تركض منتشية جداً، راضية عن نفسها، مع الكثير من التوتر..
لهذا كان قلبها الصغير يخفق كطبل، موشكاً على التوقف.
لم تكن لتخبر أباها أو أمها، لأنها كانت ستتلقى اللوم في كل الظروف.. «أنت المخطئة لأنك فعلت كذا وكذا ولم تفعلى كذا وكذا»..
لم تكن قد كونت خبرات عميقة عن الحياة، لكنها كانت تعرف أنها مخطئة في كل الظروف.. كان الانتقام مشكلتها هي وحدها.
وعندما خرجت من السوق أخيراً اتجهت إلى بائعة الطماطم الجالسة على قمة الشارع.. البائعة التي أنذرتها أمها من الشراء منها لأنها غالباً تبيع بسعر باهظ .
ابتاعت كيلو جراماً من الطماطم ثم ركضت مسرعة نحو البيت.
تُرى هل تركت أنامله وشفتاه أثراً عليها؟ هل ترى أمها ذلك؟ هل تراه في عينيها؟ ما تعرفه هو أنها لن تعود إلى هذه السوق أبداً بعد اليوم.
كان عصام يرتجف انفعالاً.. وقف أمام الجدار يحاول أن يقرأ الكلمة. السنجة.. هل كانت هذه هي لفظة « السنجة » تلك التي كتبتها على الجدار؟ هل ما زال المشهد القاسي يدميها حتى لحظة انتحارها؟ بل هو سبب انتحارها ؟ لن يعرف أبداً ...

عفاف الصغيرة - رواية السنجة
د. أحمد خالد توفيق

اقرأ المزيد