
أحمد سالم
يحسن الناس سؤال الألم والشر، ولا يحسنون سؤال النعمة والفضل.
يحسنون سؤال لماذا يختل الحال؟
لماذا لا تعمل كليتي بكفاءة؟
ولا يحسنون سؤال: ولماذا تعمل أصلًا بكفاءة؟
شيء يشبه التعامل مع الهاتف، أنت لا تسأل قط لماذا يعمل بكفاءة، تتحرك بالشكوى فقط عندما يتعطل الهاتف أو تسوء شبكة الاتصال.
تزور الطبيب عندنا يمرض جسدك، ولا يخطر ببالك غالبًا أن تعرف من تزور عندنا تكون سالمًا معافى.
يقف خلف هذا شعور ملح بالاستحقاق، وهذا مفهوم جدًا في حالة الهاتف فأنت تدفع قيمة الخدمة وبالتالي مفهوم أن تنحصر حركتك في اتجاه الشموى عند وقوع الخلل.
لكن الحياة تختلف، والعالم يختلف، فكلاهنا ليس مدينًا لك بشيء، ولا يجب على الله إلا ما أوجبه سبحانه على نفسه، ولم يوجب الله على نفسه أن يخلو العالم من الألم، بل طبيعة الخلق الإنساني مبنية على الابتلاء، ولا يمكن نزع الابتلاء لا عن العالم ولا عن التجربة الإنسانية.
ومع هذا دعنا نتفهم سخطك عند الألم، فلقد خلق الإنسان ضعيفًا، ولذلك فالله يعرف منه قابلية الذنب والخطأ وفتح له باب التوبة.
لكن غير المفهوم هو ضعف الامتنان وفقر الشكر، لماذا لا تسأل: لماذا تعمل كليتي بكفاءة، لماذا يهدر قلبي بلا توقف مدة عمري، لماذا تمر بي آلاف البكتيريا فتنفعني، لماذا تمر بي عشرات الفيروسات فيتعامل جسدي معها بكفاءة، لماذا توجد آلاف الفرص للحوادث فأنجو منها بلا حول مني ولا قوة.
كل طبيب يعلم أن الطبيعي جدًا والمفترض جدًا هو عكس كل هذا، وأن هذا العمل بكفاءة غير مفهوم، وجميع البدائل الصناعية لا تعمل بتلك الكفاءة ولا تعمل أصلًا سوى سنوات معدودة..
أنت ملك لربك، لا بد أن تعي هذه الحقيقة وتسلم لها، لا تستحق شيئًا إلا ما تفضل هو سبحانه فأعطاك إياه، هذا الخضوع والتسليم أحيانًا ما تأباه نفسك، ويستفزك الشيطان لتتخلق بأخلاقه فتظن أنك تستحق مكانة لم يعطها الله له فحسب أن معدن خلقه يوجب له رفعة على سائر الخلق.
أيها العبد المخلوق لست شيئًا إلا ما أراده الله لك وكرمك به فضع جبهتك على الأرض وقل: سبحان ربي الأعلى.
مقتطفات أخرى
المجتمعات الكبيرة تكتسب صلابتها الإيمانية من كثرة المقتصدين في مقابل الظالمين لأنفسهم، وليس من كثرة السابقين بالخيرات في مقابل الجميع.
الطبقة الوسطى في كل شيء، هي البنية الأساسية، والمعبر الأساسي عن طبيعة المجتمع وسماته.
الله يقول: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
إن المسلمين والناسَ كلهم في هذه الدنيا؛ لأنها دار بلاء، المصابُ منهم مبتلًى بالضرَّاء، والمعافى منهم مبتلًى بالرَّخاء مُمتَحَنٌ بالسرَّاء، كلاهما في اختبار، والعدلُ الرباني لا يُنظر إليه من جهةِ كفة الدنيا فحسب، بل ميزانه الدنيا والآخرة، فإذا أتيت على ربك يوم القيامة فلم تجده أعطى المحسِنَ أجرَ إحسانِه وزيادة، وعاقبَ الظالمُ المسيءَ بإساءته عذابًا مهينًا جزاءً وفاقًا= ساعَتها اسأل عن العدل الإلهي أين هو.
وقد كان فيما قدَّره اللهُ وقضاه في هذه الدنيا، أن رأينا أراذلَ الخلقِ يقتلون الأنبياء، وجُعل قتلُ نبيٍّ كريمٍ قُربانًا يتقرب به ملكٌ كافر لِبغيٍّ فاجرة.
وقد أخبرنا اللهُ في قرآنه عن ملكٍ لا يساوي فِلسين، وهو يَحفِرُ الأُخدودَ ليُلقيَ فيه المؤمنين، ولم يتصارخ خيرةُ المؤمنين هؤلاء يتسخَّطون أقدار ربهم؛ أن قد آمنا، فكيفَ يتسلَّطُ علينا من يعذبنا فيحرقنا؟!
ما يحدث ليس جديدًا أصلا، وإن الله لم يَخدِع الناسَ شيئًا، بل هو من حكى لنا أخبار الابتلاءات العظيمة التي وقعت بأوليائه، أفحسبتم أن تؤمنوا وأنتم لا تفتنون؟
على أي جوانبها تدورُ الرحى، فإنها لا تدور إلا لتُلقي برأسكَ على عتبةِ مولاك، صابرًا على البلاء، شاكرًا على النَّعماء، مستغفِرًا من الذنوب، مُطيعًا مفتقرًا ترجو رضاه والجنة.
والمؤمن يجعل بين عينيه قولَ السحرةِ لفرعونَ لَمَّا آمنوا فعذَّبهم:
﴿فَاقضِ ما أَنتَ قاضٍ إِنَّما تَقضي هذِهِ الحَياةَ الدُّنيا﴾ [طه: ٧٢].
وقولهم: ﴿قالوا لا ضَيرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ﴾ [الشعراء: ٥٠].
إن ما حدث للسحرة مع فرعونَ من أظهر نصوص الوحي في فهم طبيعةِ الابتلاءِ وميزان الخير والشر، فهذه الدنيا وما يكون فيها ليست معيارًا للخير والشر، وليست مَيدانًا لتحقيق العدل الإلهي أصلا.
إن الله عز وجل يبتلي عبادَه ليرفعَ درجات الصابرين، ويزيدَ في عذابِ الظالمين، ويُمحِّص صَفَّ المؤمنين، ولِتُقامَ بهم الحُجّة على عذاب المجرم يوم القيامة، فلا يُشفِق عليه أحد، ولا يَعتذر عنه أحد، وليمتحن اللهُ بهم أمثالنا من المؤمنين: أيثبُتون أم يستزلهم الشيطان فيكفروا؟
أما المُبتَلون= فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاءٍ كأن لم يكن، يَخلُقهم الله خلقًا آخر، هو ربهم وملكُهم، لولاه ما كانوا.
وهو سبحانه ذَكر لنا في مُحكم التنزيل خبرَ المؤمنين يُلقَون في أُخدود النار، ثم بيَّن النبيُّ ﷺ من ذلك موقفًا عظيمًا فيقول ﷺ: "جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام يا أمّ اصبري، فإنك على الحق".
إن طائفةَ المؤمنين الذين أعدَّ اللهُ لهم جناتِ النَّعيم= يعلمون أن الدنيا وشرَّها كله يسير في مقابل جنةِ الخلد ونعيمٍ لا يَفنى، ونظرةٍ إلى وجههِ الكريم لا يَبقى في النَّفس بعدها شيءٌ غيرَ النعيمِ تذكره.
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}، من وعى هذه الحقيقة= نجَّاهُ اللهُ من مصير الذين خَسِروا أنفسَهم فصاروا يُحاسِبون الله على فعله، ويقضون عليه في خلقه.