أحمد سالم
لا يأتينا الشيطان جميعًا من باب واحد، ولا تنحصر أبواب الشيطان في الشهوة والشبهة، بل من أعظم الأبواب التي ينفذ إلينا منها؛ باب الضعف الإنساني ومشاعر الألم التي ركبت فينا باعتبار نقصنا.
كالبيوت المسكونة في قصص الرعب= يتغذى الشيطان على خوف الإنسان وضعفه وشكه بل وحتى حبه وبغضه، فيلتقم بفاه كل ثغرة من ثغرات النفس هذه فينفخ فيها حتى يلتهم روحك فإما احتل قلعتك وإما رجع عنها بعد أن يتركها خاوية على عروشها، فلا تظفر بها أنت طالما لم يظفر بها هو.
لماذا تظن أن الأبناء فتنة؟
لأنك تحبهم وتكره مساءتهم وتخاف عليهم وتضعف أمامهم وتشك في أمانهم معك ومن بعدك..
فماذا يصنع الشيطان؟
يأخذ كل ذلك فيجدل منه حبلًا غليظًا فيلتف به حول عنقك فتعصي ربك بشتى أنواع المعاصي، يحملك عليها الحب والخوف والضعف.
ومثل هذا في حياة الناس كثير ، ولا طمع لابن آدم في زوال خوفه وضعفه وشكه، وإنما طريق النور في هذا كله أن يُقر الإنسان بضعفه ونقصه وخوفه وشكه، لا يأمن على نفسه، ولا يدعي قوة ليست فيه، ثم يستعيذ بالله ويستعينه فيجاهد فيأتي الخير ولو كانت فيه مخافته، ويجاهد فيذر الشر وإن كان فيه أمنه، وكلما سقط نهض، ومتى وقع ارتفع.
ولأجل ذلك الباب، لأجل مشاعر الألم ومجاهداتها تلك، جعل الله من نعيم الجنة الذي يجازي به المحسنين= أن تلك الدار لا خوف على الذين فيها ولا هم يحزنون.
مقتطفات أخرى
لا تعظموا إلا الحق، ولا تتمثلوا القيم حية إلا حياتها فيمن مات من الأنبياء والصديقين وأئمة المسلمين أولياء الله الصالحين، وتبع لهم من اتبع الحق من الأحياء، أنصف معه بلا غلو ولا بخس، فلا عصمة، ولا نقاء، ولا قدوة مطلقة لا تقع ولا تزل ولا تنقص، فإن أولئك لا يخلو منهن أحد.
غاية ما هنالك أننا في عالم مكشوف،
فأنت تطلع فيه على أبواب من النقص والزلل لم يكن الناس يطلعون قديما عليها إلا بالملابسة والمخالطة،
وكان الناس يحذرون الرجل أن يقترب ممن يحبه ويعظمه لأن اطلاعه على خاصة عيوبه قد يفسد الود،
ويجعله لا يحسن ميزان الخير والشر وينصف صاحبه= فصرنا في زماننا والناس لا يكاد يخفى عليهم إلا ما يستره الإنسان تحت جلده وأظفاره.
ومن هنا تعظم الفتنة، وتزداد مسؤولية الإنسان عن أفعاله وصورته التي قد يفسدها حتى ما لا يغضب الله؛ لأن الناس لا يتدبرون، فما بالك بفسادها بالنقص الذي يغضب الله.
لا تأذنوا لأحد يدلكم على نفسه، بل اطلبوا من يدلكم على الوحي والدين وسبيل المؤمنين، ويبرأ من نفسه،
وما دام غالب أمره خير، وليس في شره ما يوجب هجره= فخذوا إحسانه وانتفعوا به،
وأعرضوا ما استطعتم عما دون ذلك من زلاته ونقصه؛
فإن الصحابة اقتتلوا متأولين، ووقع من بعضهم ما هو بغي، فلم يمنع هذا الأمة كلها أن تحمل عنهم الدين،
وكما أن الحق مفرق، فإن النقص مفرق، ولا طمع في جيل لا دخن فيه،
وإنما يطمع الناس في دفقة نور تقتل ولو شيئًا من الظلمة التي تحتوشنا من كل مكان.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل القرآن، أوتروا، فإن الله وتر، يحب الوتر».
فقال أعرابي: ما تقول؟
فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك، ولا لأصحابك.
قلت: وهذا الخبر أصل عظيم في باب عظيم:
وهو أن الخطاب بالعلم والإيمان قد يُتخفف فيه لبعض الناس بحسب دينهم وإيمانهم فلا يخاطبون بما يُخاطب به الأسبق إسلاما والأكمل إيمانًا، وأنه ليس يصلح كل الناس الازدياد في العمل، وإنما يكون المطلب الأعظم منهم هو ضبط أصول الفرائض المحرمات.
وهذا الحديث مما يظهر به معنى حديث الأعرابي الذي فيه أفلح إن صدق، وأنه في قوم مخصوصين خاطبتهم الشريعة بما لا ينفرهم ويخرجهم من الدين لثقل التكاليف على إيمانهم.
ومن هنا تعلم صحة ما أشرنا له مرارًا من خطورة رفع سقف الخطاب الدعوي بعلم وإيمان يُزعم أن التدين لا يكون إلا به، والحال أنه لا يطيقه أكثر المخاطبين، فيفرح الداعية بالقلة المستجيبة ويغفل عن الأكثرية التي بقت على حالها لثقل خطابه عليها، وفرحه غرور، يضر الناس ويٌقسد المجتمعات.