((رأيت الناس لا يمنعهم من الظلم إلا العجز – ولا أقول العوام بل العلماء- كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن يوسف، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع، حتى كانوا لا يمكنونهم من الجهر بالبسملة والقنوت – وهي مسألة اجتهادية!
فلما جاءت أيام النظام، ومات ابن يوسف، وزالت شوكة الحنابلة؛ استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوْا بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات، والفقهاء بالنبز بالتجسيم، قال: فتدبرتُ أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد، يصولون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم)).
ابن عقيل الحنبلي.
(1)
لا سبيل لتجويد فهم التيارات الإسلامية إلا حين تفكر فيها وفق نموذج الصراع، هم مجموعة من الفاعلين المتنافسين يتصارعون على حيازة أدوات السلطة والنفوذ.
لكل طرف منهم أيديولوجيته وشعبه وقادته وجيشه (وليس كل سلاح الجيوش رصاصاً) حتى التيارات التي تنحاز عن السياسة هي في الحقيقة إنما تنشئ دولة أو بعض دولة بصورة موازية ولا تتصارع على السيطرة على السلطة الرسمية.
أطراف متصارعة: ساسة وعسكر، وشعب، وأيديولوجيا، كل تحليل لهم يستبعد هذه الأداة= يضل طريقه ولا يُحسن الفهم.
إن أعظم بلية كانت في تاريخنا بدرجات تقل أو تكثر فأخذها إسلاميو عصرنا ونفخوها وتلبسوا بعظائمها إلا من رحم الله: هي الصراعات التي أقاموها بينهم لتتسع رقعة كل حزب فيهم في الناس، والواحد منهم يلبس هذا لباس الحق والسنة والدين وأنه إنما يريد زيادة رقعة الحق الذي معه لأنه الحق الذي جاء به محمد، والحال: أن كل أولئك من جنس الملوك والسلاطين فيهم شعبة من إرادة الحق وشعبة أخرى من إرادة العلو في الأرض وتحصيل السلطة المعرفية والنفوذ الجماهيري.
وإن الآفة التي سيطرت على كثير من رموز التيارات الإسلامية: هي آفة طلب النفوذ السلطوي، أو المجتمعي، أو هما معًا، وكثير من ذلك إنما يكون آفة لأنه من طلب العلو في الأرض، وإن ألبسه التأويل لباس نصرة الدين بالسلطان.
وطلب النفوذ مع فقد عدته الحقيقية يقود إلى طلب عُدة من جنس ما يتاح لك، إما المال، وإما الأتباع، وإما السلاح، وإما طلب رأس سلطة تظن أنه يتاح لك بالسياسة.
وأنتَ إذا أدرت قسمة التيارات الإسلامية على هذا المفتاح= استقام لك تصنيفها، وأعانك ذلك على فهم كثير مما يبدو لك غير مفهوم من تنازعهم وشقاقهم وشدة البأس بينهم.
(2)
دعنا نأخذ مثالًا يبدو لأول وهلة بعيدًا عن الصراعات، أعني جناح الإسلاميين المتفرغ لتحرير العلم والدين والدعوة، وبث الدين في نفوس الناس، بلا اشتغال سياسي في الظاهر، كالوعاظ والسلفية العلمية والاتجاهات الدعوية ونحوها= سترى أنه يصيب كثير منهم ما أصاب غيرهم من طلب النفوذ، وكانت عدتهم في هذا هي طلب كثرة الأتباع، واستجلاب الأتباع له آليات؛ ولذلك لم يقنعوا بدعوة الناس وبث ما يستطيعون من الحق فيهم بما يطيقون، ولكنهم طمعوا فوق هذا بنفوذ يزيد في وسائلهم الدعوية، ويزيد بالتالي في أتباعهم.
وأولئك الأتباع هم من نفس المجتمع، ولكن ذلك الداعية لا يصبر على دعوتهم وبث الحق فيهم دون أن يحاول جذبهم بسنارته إلى شباك تياره الخاص، وجماعته المعينة، وطمعه في الجذب يقضي أن يحتال ليقوي شبكته، والشبكة الجاذبة تتم تقويتها بثلاث وسائل أساسية:
الأولى: احتكار الصواب والحق.
الثانية: المال.
الثالثة: الاستعانة بنفوذ السلطان.
حديثي الآن عن الثالثة فحسب؛ لأنها تعين على فهم بعض الأحداث القريبة.
السؤال: ما طريق تحصيلهم لنفوذ السلطان وليس لهم اشتغال سياسي ولا قوة يذعن لها خصم؟
طريقه -للأسف- هو الدخول في السلاطين، والطمع فيما عندهم، وقبول جزرتهم، والغفلة عما وراء هذه الجزرة من أغراض، ثم الاحتيال بجهاز التأويل على الاستسلام لهذه الأغراض بعد ذلك وشرعنتها، فمستقل ومستكثر.
تعطيهم الأنظمة أشياء تافهة يسمونها هم مكتسبات: درسًا في مسجد، قناة فضائية، ترخيصًا لجمعية خيرية، انتشارًا دعويًا بلا حاجز أمني، ثم تتركهم ليذوقوا عسيلة هذه الأشياء ذوقًا لا ننفي أنه يتمكن منهم بسبب شعبة في نفوسهم إرادة هداية الناس.
حتى إذا استملحوها= ساوموهم عليها، وهنا يأتي جهاز التأويل ليخدر الضمائر باسم المصلحة والمفسدة، حتى يتدرج الحال بهم أحيانًا؛ ليكونوا بمنزلة مساند للمؤسسات الدينية السلطانية؛ لتبتلعهم الدولة في دولابها تماما.
هذه آفة عظيمة جدًا، وهي من الباطل الذي يختلط بالحق، فيحمل الناس على بغض الحق والباطل معا.
وإذا تأملت جيدًا في هذه الآفة= ستستطيع تفسير كثير مما بدا لك مستعصيًا على الفهم، مثل كيف تدرج نوريو الإسكندرية في الضلالة، ومن أين يخرج عليك وعاظ الضلالة بمبادراتهم، ومن أين فسدت السلفية العلمية والدعوية وجعلتها الأنظمة ساعدًا لها إلا من رحم ربك.
(3)
هل يعني ذلك أن الإسلاميين لا إرادة لله والدين والإيمان عندهم؟
اللهم إني أبرأ إليك من أن أزعم هذا، لكن العقل العاجز عن التفكير السليم هو وحده من يحاول التحليل عبر العوامل الأحادية، ويغفل عن أن الظواهر كالنفوس معقدة مركبة تتنازعها العوامل والإرادات، وإذا كان الله عز وجل قد خاطب خيرة الخلق فقال لهم: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، فإن من بعدهم أنقص منهم، وإن الجماعات يجتمع فيها الخير والشر، وإن الرجل من أهل الخير هو نفسه يجتمع فيه الخير والشر، غاية ما هنالك أن خيره ربما كان أكثر، لكن هذا لا ينفي أن في أفعاله وتصرفاته وإراداته شر.
وإن أكثر أهل الديانة لا تتمحض فيهم إرادة الله وحدها أو إرادة الهوى وحظ النفس وحدها، بل تتركب خلف أفعالهم الإراداتان، وفصلهما يحتاج إلى جهاد كبير، تُقعد عنه الغفلة، وتحجز عنه قلة العلم.
يقول شيخ الإسلام: ((والناس هنا ثلاثة أقسام: قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم؛ فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه؛ فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرًا – ينهى عنه ويعاقب عليه؛ ويذم صاحبه ويغضب عليه – مرضيًا عنده وصار فاعلًا له وشريكًا فيه، ومعاونًا عليه، ومعاديًا لمن نهى عنه وينكر عليه. وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه.
وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا. وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس.
وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا؛ وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة… ولهذا؛ لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أُمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر} أقرب عهدًا بالرسالة وأعظم إيمانًا وصلاحًا، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة؛ إذ كانوا في حكم القسم الوسط.
ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث؛ فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد؛ فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين: وكل منهما متأوّل أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنه مع الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى؛ ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس؛ وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى. فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى))([1]).
ويقول شيخ الإسلام أيضًا في نصٍّ نفيس مستقرئًا حال الاجتهاد وعلاقته بالهوى، مقسمًا حالات المجتهدين إلى ثلاث حالات، مبيّنًا أن الحال المركَّب من الاجتهاد والهوى هو الغالب: «المجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه.
وثم قسم آخر – وهم غالب الناس – وهو أن يكون له هوى، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة؛ ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات».
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركَّب على شبهة وهوى: فهو مسيء، وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية. وأكثر المتأخرين – من المنتسبين إلى فقه أو تصوف – مبتلون بذلك»([2]).
وإن تحصيل النفوذ السلطوي والمجتمعي، وزيادة الحظ في الناس= سعي تتركب إرادته من إرادة الله ونصرة دينه، ومن إرادة العلو في الأرض، وقلما تتمحض واحدة منهما إلا في قلة من أهل العلم والإيمان والجهاد والمراقبة والمحاسبة.
وطريق جهاد النفس في هذا: أن تجعل الدين كله لله، وأن يكون همك في نشر الحق أن يدخل الناس في الإسلام العام الذي كان يبايع عليه الأعرابي ويجعله رسول الله في خطبه ورسائله، وأن ترد كل ضلالة بحسبها ولا تتعدى بها قدرها، وبما لا يهدر ما بين المؤمنين من حقوق ولا يفسد دين عامة الناس.
وفي خلافك مع إخوانك: انصح لا تجامل في الحق أحداً ولا تترك بياناً واجباً عليك لا يسعك تركه، واحفظ حقوقهم واقدر خيرهم قدره ولا تفسد قلوب الناس لغيرة أو نفوذ أو صراع تلبسه لبوس الدين، وحاسب نفسك فلا تنتصر لها إلا نادراً وبالحق، وأن تجعل همك نشر الحق لا كثرة الأتباع عليه، وأن تجمع بين نصرة الحق ورحمة الخلق، وأن تحب المسلمين جميعاً وتدعو لهم وترحمهم حتى من يؤذيك.
وارفع شأن الاستغناء وعظمه وعظم ذروة سنامه= ألا تطلب نفوذًا وانتشارًا يغرسك في وحل السلطة.
لا يكلفك الله أن تتوسع وتستكثر على نحو يفوق طاقتك، أو يجلب عليك الفساد، وإن لم يكن بد من التوسع والاستكثار إلا أن تدخل في طاعة هؤلاء، وتقبل جزرتهم وما وراءها= فالله غني عن طريق السوء هذا، فإنه يؤدي إلى أن يجتمع الباطلان الكبيران معًا: العلو في الأرض، مع الفساد.
طرق خطاب الناس بعيدًا عن أن تحتويك الأنظمة= صارت أرحب مما مضى، ولا يزهدنك فيها ضعف الثمرة أو قلة المحصول؛ فِإنك لا تكلف إلا وسعك، وليكن استغناؤك عن المكتسبات المزعومة أهون عليك من غض طرف عينك عن أذى لو تركته هتك قلبك.
تدبر كثيرًا من الفساد الذي تنكره= ستراه يرجع إلى باب واحد: كيانات أرادوا حفظها فبذلوا دينهم ثمنًا لها.
والأخرى الجليلة: أن تدع الدنيا بنفوذها وسلطتها وكثرة الأتباع فيها = جيفة يلغ فيها من يشاء، فلا تطلب منها إلا ما يطمئن قلبك لخلوص إرادتك لله فيه؛ فإن الدنيا لو كانت تدوم لدامت للأنبياء والراشدين دوامها للملوك والسلاطين.
احفظ هذا فإني أرجو أنك إن وعيته= نجوت وجعلت الدين لله خالصاً لا تريد به علواً في الأرض ولا فساداً.