
أحمد سالم
هناك فرق بين الوحدة التي هي شعور مؤلم، وبين الوحدة بمعنى الانعزال وعدم القدرة على تكوين العلاقات والانخراط فيها.
وبين القدرة على أن تكون وحيدًا فهذه الأخيرة من معالم النضج النفسي، وفيها تكون وحدتك مصدر أمان ودعم بقدر ما العلاقات مصدر أمان ودعم.
وبين الانطوائية وهي تفضيل طبعي لفترات الوحدة وغلبتها مع القدرة على توفية الحد الأدنى من الانخراط الاجتماعي والاستمتاع به وأداء حقه.
هذه أربع صور تسمى وحدة..
الوحدة الأولى شعور ملح يتمكن منك حتى وأنت وسط الناس ووسط علاقاتك، والثانية حالة معقدة من المشاعر والسلوكيات تصل بك لأن تكون منعزلًا اجتماعيًا وربما تصل للرهاب الاجتماعي، ولابد في علاجها من تشخيص سليم كامل وعمل منتظم.
تمكن شعور الوحدة له آثار نفسية وإيمانية وحتى جسدية، وكنت أحب جدًا تتبع الأحاديث التي تحذر من الانفراد والوحدة لأجل هذا، وهذا الإشكال يحتاج لعلاج واستعانة بالله عز وجل.
ومن المهم تحليل أسباب هذا الشعور، أحيانا بتكون بسبب عدم وجود تقدير كافي للذات، أو لوجود روابط عائلية ضعيفة، أو لمشاكل في التواصل مع المجتمع، أو لظروف مؤقتة، تشخيص الحالة وأسبابها مهم جدًا، ومفتاح ده هو الوصف المكتوب للحالة، الوصف المكتوب بيساعد على فهم نفسك وما يحدث لك.
العلاج بعد جودة الفهم والتشخيص يعتمد بدرجة أساسية على محاولة الاندماج والفاعلية، نفع الناس، مساعدة المحتاجين، بناء صداقات جديدة، القرب من الله والتعلق بالوحي والمسجد، ولا مانع من استشارة معالج نفسي بل في الوحدة الثانية (الانعزالية) يكون هذا ضروريًا.
الوحدة الثالثة، من الممكن أن نسميها الاعتكاف، وهي الوحدة التي هي خيار تفعله باقتدار لتعود لذاتك وتستمد منها أمنك وصمودك ولا تفقدك الوحدة قدراتك الاجتماعية.
هذه الوحدة الثالثة من أهم معالم الصحة النفسية.
يقول أنطوني ستور: إن قدرة المرء على التوحد تعتبر مصدرًا عظيم القيمة عندما يتطلب الأمر إحداث تغييرات في التوجه الذهني.
فبعد وقوع تغيرات رئيسة في الظروف المحيطة بالمرء= قد تكون هناك حاجة إلى إعادة تقييم جوهرية لأهمية الوجود ومغزاه؛ ففي ظل حضارة يُعتقد في ظلها أن العلاقات بين المرء وبين غيره من أشخاص؛ خليقة بأن توفر العون بإزاء كل أشكال المحن= فإنه يكون من الصعب أحيانًا إقناع أولئك الذين يقدمون العون بنية طيبة؛ بأن الاعتكاف يمكن أن يكون علاجًا شأنه شأن الدعم التعاطفي من جانب الآخرين.
قلت: ولهذا الاعتكاف آثار فاعلة جدًا في القدرة على معالجة تعقيدات العالم؛ ولأجلها كان الاعتكاف عبادة شرعية، وكانت فترات الحداد من أعظم منح الله للمبتلين بالفقد..
أما الوحدة الرابعة وهي التي يمكن أن نسميها الانطوائية، مع أنه اسم مظلوم، فهي حالة أعمق تعد من جملة الطباع التي قد يجبل عليها بعض الأشخاص أو ترسخها فيهم عوامل تربوية وبيئية= فليست حالة سلبية طالما جمعت بين إيجابيات الاعتكاف ونجت من سلبيات الوحدة الشعورية والانعزال الاجتماعي، وهي في مقابل الانبساطية.
مقتطفات أخرى
يقول الروائي الياباني موراكامي: ((ستقطع العاصفة اللحم كآلاف الأنصال، وسينزف الناس هناك، وستنزف أنت أيضاً، ستنزفون جميعاً دماً أحمر حاراً، وستتلقف أنت هذا الدم بيديك، دمك ودم الآخرين.
ولحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، و لن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا.
ستكون متيقنًا من أمرٍ واحدٍ فقط: حين تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها، و لهذا السبب وحده كانت العاصفة)).
نعم. لا يُفترض بنا أبدًا أن نخرج من هذه العاصفة كما دخلناها، لا ينبغي أن يكون هذا أبدًا.
ومما يقرأه الناس من القرآن ولا يفقهه كثير منهم:
قول الله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.
قلتُ: والذي في هذه الآية هو مثل مضروب، ففي الآية رجل آتاه الله خيرًا عظيمًا، عاش فيه وتنعم، ثم كبرت سنه، فهو أحوج ما يكون لاستمرار انتفاعه بهذه الخير، ثم له ذرية ضعفاء فهو أحوج ما يكون لأن يُبقي لهم هذا الخير يتوارثونه فيكفيهم شر السؤال.
ثم إذا بإعصار يحرق جنته ويحرق معها آماله تلك كلها.
وكل هذا الذي تقدم ليس على ظاهره وإنما هو مثل ضربه الله لرجل أنعم الله عليه بالغنى، وهو يطيع الله في هذا المال ويشكر نعمته، ثم إذا بحال طاعته ينقلب إلى معصية يغرق فيها فيكفر النعمة وتغرق تلك الطاعات في بحر المعاصي التي استرسل فيها، حتى أحرقت الذنوب جنة طاعته التي سبقت منه، فليست الآية في جنة احترقت وغنى مال قد زال، وإنما هي في تاريخ طاعة قد ولى وأكله الذنب فما أبقى منه شيئًا، وإن بقى غناه على حاله.