الرغوة

أحمد سالم
المؤلف

أحمد سالم

مفكر وباحث في الدراسات الإسلامية والاجتماعية

الرغوة

{فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}

(1)

في ثلاثينات القرن العشرين ولدت العلامة التجارية الخاصة بمعجون الأسنان بيسودنت، وبالتعاون مع عملاق من عمالقة فن الإعلان والترويج في هذا الوقت "كلود سي. هوبكنز" تم بيع الملايين من هذا النوع؛ ليتحول معجون الأسنان من يومها وحتى وقتنا هذا إلى سلع من أكثر السلع رواجًا، وليتحول استعماله إلى عادة من العادات اليومية في العالم أجمع.

قبل هذا التاريخ كان معجون الأسنان موجودًا وبماركات مختلفة، ولكنه لم يكن أحد السلع الرائجة، ولم يكن استعماله يعد بمثابة عادة منتشرة، ولكن عبر تقنيات إعلانية لا زالت تُدرس حتى اليوم؛ فتح معجون الأسنان بيسودنت وحملته الإعلانية الباب للتحول الكبير الذي طرأ على هذه السلعة.

أحد التقنيات المهمة التي ساهمت في هذا كانت أن مبتكر هذه الماركة الجديدة من معجون الأسنان قد أضاف لتركيبته حامض السيتريك وجرعات من زيت النعناع مع مكونات كيميائية أخرى ساهمت في إعطاء هذا المعجون إحساس الوخز اللاذع والمنعش الذي تشعر به عند استخدام معجون الأسنان، وقد استمر استعمال هذه التقنية التاركة لهذا الأثر في مختلف أنواع المعجون من يومها حتى وقتنا هذا.

تقول تريسي سينكلير مديرة "ORAL P" ومعجون كريست: إن العملاء يحتاجون إلى إشارة من نوع ما إلى أن المنتج يعمل بنجاح، ونحن نستطيع أن نجعل نكهة معجون الأسنان بأي صورة طالما يشعر الناس بالوخز المنعش، فإنهم يشعرون بأن أفواههم تبدو نظيفة، إن هذا الوخز لا يجعل معجون الأسنان يعمل بشكل أفضل، ولكنه يقنع الناس بأن المعجون يعمل على أكمل وجه.

تواصل سينكلير القول أيضًا بحسب ما ينقله عنها تشارلز دويج مؤلف كتاب قوة العادات: إن تكون الرغوة يمثل جائزة كبيرة للغاية، إن الشامبو لا يتوجب عليه تكوين رغوة، ولذلك فإننا نضيف مواد كيميائية مكونة للرغوة؛ لأن الناس يتوقعونها في كل مرة يغسلون رؤوسهم، وينطبق الشيء نفسه على مواد تنظيف الملابس، ونحن نضيف مادة تضيف الرغوة لمعجون الأسنان، وليس لذلك فائدة صحية، ولكن الناس يشعرون بحالة جيدة عندما تكون هناك كمية من رغوة الصابون حول أفواههم.

(2)

إن الأساس الذي ترجع إليه تقنية الطعم اللاذع وتقنية الرغوة هو أساس واحد، خلاصته: افتقار الإنسان للشعور بالأثر السريع، افتقاره لرد فعل ظاهر محسوس، حتى وإن لم يكن كبير الأثر، وحتى وإن لم يكن مفيدًا بالمرة.

لأجل ذلك: فإن أكثر ما يُثنى به على المؤمنين هو أنهم يؤمنون بالغيب. ولأجل ذلك يعد من معالم العبوديات العظمى: استمرار الإنسان في الدعاء رغم تأخر الإجابة أو حتى رغم عدم الإجابة بالمرة. فإن الإجابة السريعة والنصر المعجل والإيمان المشهود= لا فضل لأحد فيها فكل الناس بها يؤمنون، أما من يغالب طبع عجلة الإنسان لشهود الأثر= فأولئك هم المؤمنون حقًا.

ولأجل ذلك: يشعر الإنسان بالحاجة لكلمات الثناء على عمله، والمدح على فعله، وشرع الوحي للناس أن يشكروا من أحسن إليهم؛ فلا يشكر الله من لا يشكر الناس، ومن قال لأخيه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء. ولأجل ذلك: تعظم المرأة قدر الكلام الرومانسي، أو الهدايا اللطيفة، وتشكو زوجها إن افتقده حتى وإن كان زوجًا محبًا صالحًا.

ولأجل ذلك: يمكنك أن تكتفي في رد السائل بالدعاء الحسن، ومدحت العرب قديمًا طيب القول في وجه السائل، ونهى القرآن عن نهر السائل، فقال تعالى{أما السائل فلا تنهر}. ويقول الشاعر:

لا خيل عندك تعطيها ولا مال *** فليُسعد النطق إن لم يُسعد الحال.

وإلى نفس الباب يرجع الأثر الإداري لتحفيز الموظفين، والأثر التربوي للثناء على الأبناء إن أحسنوا، ولنفس الباب يرجع تعلق قلوب الناس على مواقع التواصل بالإعجاب والرتويت، بل لنفس الباب يرجع تشوف الكتاب والباحثين لأن يروا ذكرًا لأعمالهم ولو بالانتقاد. وتحت نفس الأصل: يندرج خوف الناس من الفضيحة أمام الناس، وهو خوف يغلب في نفوسهم خوف العقاب من الله والفضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة؛ لأن فضيحة الناس عقوبة معجلة وأثر لاذع قريب.

ولأجل ذلك أيضًا: يزهد الناس في الأعمال الصغيرة التي لا يُسمع بها، ويزهد الناس في الأعمال العظيمة لكنها طويلة المدى لا يُرى أثرها إلا بعد سنين قد تتخطى سنين عمرهم، ولأجل ذلك كله أكثر الوحي من وعظ نبيه بقصص السابقين من أنبيائه: ألا ينتظر ثمرة عمله، وأن يتجاوز الحاجة الإنسانية لشهود الأثر؛ فإن النبي يأتي يوم القيمة وليس معه أحد، وإن أكثر الأنبياء ماتوا ولم يبلغوا مرادهم من أقوامهم.

(3)

لقد رأيت من ينافح عن نزول الله في ثلث الليل الآخر، يثبته صفة لله في وجه منكريه، ورأيته أزهد الناس في الطاعة التي ليس نزول الله إلا مجرد ترغيب فيها وفي سلوكها؛ وما ذلك إلا لأن الجدل فعل معجل يلمس أثره، والفعل مؤجل ثقيل تطويه جدران بيتك.

وفيما يسميه الناس الهم العام، وخاصة عند وقوع المآسي الكبرى يفزع الناس إلى الكلام، ويحبون أن يروا من حولهم من أهل الرأي والقلم يتكلمون؛ إن هذا الكلام يقوم مقام الرغوة والأثر اللاذع، يعطيك شعورًا بالعمل والإنجاز، ويجعلك تُبرد ما يستعر في نفسك من حرارة الأسى؛ لتنقلب إلى سربك آمنًا قد اصطحبت معك شعورًا زائفًا بأنك أديت ما عليك.

أما مسالك العمل والتأثير الحقيقي، والتي قد يتصل بعضها بالفعل بما قمتَ بالثرثرة عنه= فإنك نادرًا ما تطلبها أو تسلكها، وقد رأيتُ بعض من أعرفه ممن يعد الكلام معيارًا لحمل هم المسلمين، لم يسلك أي مسلك من مسالك النفع الذي يصل بالفعل للذين ظن الكلام عنهم حملًا لهمومهم حتى الجود بالمال لم يسلك به طريقًا وهو مشرع بين يديه.

وتلك سنة سائرة في الناس؛ فالكلام خفيف، والفعل ثقيل، والفراغ يمتلئ بالأسرع نفوذًا إليه، ومشقة الكلام في حركة لسان خفيف، ومشقة العمل حركة بالبدن وبذل بالمال، وركوب لمشاق تخالف أهواء النفوس، وقليل من الناس يستطيع فعل ذلك، فيبقى الكلام غنيمة باردة تُقيمك مقام الباذل وإنما أنت مثرثر لا حظ لك في ميدان البذل الحقيقي بنفسك أو بمالك.

وما أكثر ما رأيت ممن يتكلمون عن هم الأمة وطريق إصلاحها وهم من أكسل الناس إذا قصدتهم لعمل، ومن أقعد الناس إذا أردتهم لصالحة يقومون بها، أو ثغر يقفون عليه. وكل ذلك فرع عن هذا الأصل نفسه: أن الناس يحبون أن يروا شيئًا معجلًا مشهودًا ولو كان قليل الفاعلية ضعيف التأثير ليس له دور حقيقي في مداواة ما يألمون منه.

الكلام أثر سريع، ورغوة توهمك أنك أديت ما عليك، وتوهم من ينظر إليك أيضًا أنك من أهل شعب الإيمان الذين يؤثرون في الحياة بما ينفعهم وينفع الناس، والحال أنه مجرد زبد أبيض إذا زال رغاؤه لم يبق منه نفع.

مشاركة المقال

مشاركة المقال