"لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية".
الإمام مالك بن أنس
(1)
ثلاثمائة وخمسون ألف قتيل، كانت هذه هي حصيلة القتلى الإجمالية. بالطبع لم يبدأ الأمر هكذا، بدأ الأمر بحالة قتل واحدة غريبة، تلتها حالة أخرى لا تقل عنها غرابة، قبل أن يكتشف المحققون أن القتل يتم بوسيلة تقنية مبتكرة جدا تُمكن القاتل من القيام بجريمته عن بعد بواسطة التحكم الإلكتروني.
قبل الجريمة الثالثة اكتشف المحققون أن القتيلين تمت "هشتجتهم"" من قبل المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي، كلاهما ارتكب فعلا مستنكرًا اجتماعيًا، أحدهما سخر من عدالة قضية امرأة مقعدة، والآخر سخر من طفل يقلده في الغناء، تمت "هشتجتهم" بهاشتاج: الموت لفلان، وهو الهاشتاج الذي أعلن طرف خفي أن أعلى من تتم هشتجته بهذه الهاشتاج سيتم قتله في الخامسة من عصر يوم الهشتجة.
بين أربعة تمت هشتجتهم يسارع المحققون لحماية أعلاهم من القتل، لكن في النهاية يتم قتل الضحية الثالثة، وسط تساؤلات عن مدى إمكانية استمرار هذا خاصة والذي يقف أعلى الهاشتاج في اليوم الجديد هو بمثابة رئيس وزراء البلاد.
تلتوي الحبكة بعد ذلك لتقودنا للهدف الحقيقي للقاتل الخفي، إن الضحايا الذين تم قتلهم هم مجرد طعم للذين نصبوا أنفسهم قضاة ومحلفين وآلهة يُعدون الضحايا للهشتجة على الصليب الأزرق، طعم تم به اصطياد ثلاثمائة وخمسين ألف مشارك في الهاشتاجات السابقة، وقتلهم جميعًا في يوم واحد بنفس الوسيلة الإلكترونية المبتكرة.
إنهم جميعًا مسؤولون أمام القاتل الخفي عن محاولة حبيبته الانتحار بسبب "هشتجتها" لموقف زلت فيه وأساءت التعامل مع طفل مصاب بصعوبات في النطق. كان درسًا عنيفًا وقاسيًا من القاتل لحاملي الحجارة المسؤولين عن رجم الضحية المصلوبة على الهاشتاج.
(2)
شاهدت هذه الحلقة من المسلسل التي لخصتها لكم في الفقرة السابقة أكثر من مرة، وفي كل مرة وكقشرة البصل كانت تكشف لي عن طبقات لا يبدو أنها ستنتهي من قبح النفس الإنسانية.
يبدأ الأمر كالمعتاد بضحية يتم نصبها على الصليب يبدو لنا جميعًا أنها تستحق، وأن من فرص الإعلام الجديد هذه القدرة التي أتاحها للناس ليصلبوا من يستحق العقاب حتى الموت، ما دام موتًا اجتماعيًا لا يسيل فيه دم.
مع الوقت وباختلاف تركيب النفوس ومع الإغراء الكبير الذي تقدمه فرصة أن تكون قاضيًا وحاكمًا وناصبًا للمعايير= تتوالى الضحايا التي ننصبها على صليبنا الأزرق، لتتوالى معها موجات من الأذى النفسي والمعنوي لا تطال الضحية فقط، بل تطالها وتطاله ذويها وأحبابها، حتى تفسد حياتها كله، ومستقبلها بأكمله.
ومع الوقت لا يمكن التحكم في بوصلة الصلب هذه، ونجد أمامنا في وقائع متوالية، أشخاص وأخطاء تستحق من العذر أو التفهم أو حتى اللوم أكثر بكثير مما تستحق من التشهير والصلب والرجم الذي يمارسه الناس على مواقع التواصل.
الأمر بالنسبة لي أشبه بكثير بوليمة دموية يجتمع فيها مجموعة من مصاصي الدماء معدومي المشاعر فاقدي الإنسانية الذين تمدهم النطاعة بسيل لا ينتهي من التكييفات والتبريرات يشرعنون بها جريمتهم، جريمة فقد الرحمة، وفقد المروءة، وفقد الديانة.
تدخل على الهاشتاج؛ لتنظر ما هي الجريمة البشعة التي ارتكبها المصلوب الجديد، فيصدمك أنها مجرد خطأ يمكن الاعتذار عنه، أو زلة يمكن تفهمها، أو حتى خطأ يستحق العقوبة والتحذير لكن في حدود ضيقة من مؤهل لهذا يُحسن ألا يعين الشيطان عليه، بل ربما يصدمك أن جريمة المرجوم على صليب نخبة مواقع التواصل الذين يسحبون خلفهم أتباعهم: مجرد تفضيل شخصي لا يحق لأحد الحكر عليه أو محاكمة من اختاره، لكن هناك في زاوية ما، شخص قليل العقل قليل الدين قليل المروءة: اختار أن ينصب صليبه وأن يعد آلة الرجم وأن ينصب ضحيه واختار قوم أن يتبعوا نعيقه ثم سار آخرون في القطيع لا يدرون أي دم تسيله حجارتهم الرعناء.
(3)
إن الإطار الذي اختارته الشريعة للتعامل مع أخطاء الناس هو: النصيحة، وفي دلالة لفظة النصيحة معنى عظيم جدًا؛ فهي طلب صلاح الشيء وتخليصه مما يَغْبِشه ويفسده.
وكل نصيحة لا يطلب صاحبها صلاح المنصوح، ولا يبتغي بنصيحته نفعه= فهي نصيحة مدخولة كاذبة في دعوى أنها نصيحة.
وكل جدل أو حوار أو نصيحة لا تستحضر فيها الرحمة بمخالفك، وإرادة هدايته، وحب الخير له= كان ذلك من الاستطالة بالحق، ومن أخلاق أهل السنة: ترك الاستطالة بالحق، أو بالباطل.
وكل نصيحة لا تقوم على العلم والعدل ووضع الأمور في مواضعها، ووزن الأخطاء بما تستحقه= فهي جريمة وفساد.
تحري العدل والإنصاف: يؤدي بك إلى أن يكون الكثير من كلامك بعد جلسات محاكمة ومداولة، وموازنة داخلية خفية. وهذا طريق شاق كما ترى، واللسان عضو خفيف الحركة كما تعلم؛ لذلك يقع الناس في الناس ولا يعدلون.
وأنت إذا علمت أن هذا الرجم على الصليب الأزرق هو ضرب من العقوبة يسألك الله عنه ويحاسبك الله عليه وعلى كل فساد انبنى عليه= علمك ذلك أن تزن الأمور وتضعها في مواضعها، وألا تتصدى لعقوبة لا يستحقها من تعاقبه، و ألا تدخل في عقوبة ليست تحت سلطتك، أو لست مؤهلًا لها.
إن ما يقوله الرجل في الفرد أو الجماعة من الناس، ليس ميزانه فحسب هل هو صادق أمين أم كذاب مفتري. فإن الرجل قد ينجو من تعمد الكذب، ويكون عادلاً لم يظلم، لكنه يقع في شُعب أخرى من قلة الدين، أو قلة الورع، أو قلة المروءة!
ومنها:
أن يخلط الرواية بالرأي، فيسوق ظنونه وتخميناته مقام من يسوق شيئاً رآه وسمعه، فتجده يبني على واحدة صادقة عشراً، هي حدس، وظن، وتخمين كثيراً ما يكون عارياً عن البينة الصحيحة، ثم هو يسوق كل ذلك مساق الواحدة الصادقة الأولى التي رآها وسمعها.
ومنها:
أن تقوم عنده بينة، لكنها بينة ليست عالية الرتبة، فإن البينات درجات ومراتب، ومنها ما يسوغ للرجل أن يقول في خاصته وأصحابه المأمونين ممن يحسنون قياس البينات، لكنه لا يسوغ له أن يقوله في مشهد من الناس مختلطي الدرجات، فيهم من لا يميز رتب البينات.
ومنها:
ما يقوله الرجل في الفرد أو الجماعة وهو صدق غير مختلط، له بينة عالية الرتبة، لكنه من أمانات المجالس، وأسرار الناس، ومما يُستكتم به أصحاب المروءات، لم يُطلعوه عليها ليُذيعها في الناس، وليس ثم مصلحة ظاهرة غالبة تبيح انتهاك حرمة السر والمجلس تلك.
ومنها:
ما يقوله الرجل في الفرد أو الجماعة وهو حق، لكنه يسوقه يريد أن يستطيل ويبغي، أو يريد الفضيحة، لا النصيحة، ويريد الانتقام والمعرة، لا الهداية والرحمة، أو يريد أن يُقوي به حجة من يستطيل ويبغي، فيكون قد وضع حقاً في غير موضعه، واستعان به على باطل وشر كثير.
وبعد..
فإن قلة الدين، وقلة الورع، وقلة المروءة: أبواب شتى، وقد يكون الرجل وهو يحسب أن لم يكذب، ولم يظلم، وهو محتطب لغابة من الإثم على ظهره، لا يشعر بعاقبتها إلا يوم يتلقى كتابه بين يدي الحكم العدل الخبير -سبحانه-.
(4)
إن أسوأ شيء تستهلك فيه طاقتك العقلية والنفسية والعاطفية هو أن يظل مصباح المعيارية مشتعلاً على الدوام.
كل قول أو فعل يمر عليك في اليوم تكون مشغولاً بإعطائه حكماً قيميا بالصواب أو الخطأ، أو حتى بأنه يليق أو لا يليق.
الحياة لا تسير هكذا، والله لا يكلفك هذا، وقلب الإنسان أضعف من أن يحتمل هذا التحفز المتصل.
ليس كلامي هنا عن الأمور الظاهرة البين أنها منكرة= فإنكار هذا على الأقل بالقلب واجب شرعي، ليتحرك قلبك بالحب والرضا عند المعروف، وبالبغض والرفض عند المنكر.
ولكن أعرض عما لم تحط بعلمه، ولم تطق ميزانه، فلا تقل فيه بقول، ثم إياك وأمر آخر لا تسرف فيه فهو الغالب على حال الناس أعني: الاشتغال وإجهاد النفس في تقييم أمور ومواقف وأشخاص ليسوا في دائرة تأثيرك وتأثرك المباشرة.
كلامي عن عدم التغافل، عن فرز كل كلمة وكل منشور وكل عبارة يقولها صديق بصفة عابرة. كلامي عن التحليل السياسي والفكري والفلسفي والوجودي للأشياء العابرة..
التغافل يعين على سلامة الصدر، ويعين على تقوية العلاقات بين الناس، ويدخر آلتك النقدية إلى مواطن احتياجها الحقيقية..
التغافل يعينك على تلمس الأعذار، ويعينك على التفهم، والتفهم أن تقر بأن الفعل خطأ لكنك ترى في دوافعه والسياقات المحيطة به ما يجعلك تخفف من حكمك القاسي على فاعله، وأن ترى أنك ربما بو كنت مكانه لزللت كما زل، فترحمه وترجو له الخير، ولا يزال الرجل على هدى من ربه ما دام يحب الخير للمسلمين جميعًا، المحسنِ منهم والمسيءِ.
إن دوام اشتعال مصباح المعيارية سيقود ولا بد للخطوة التي تليه: أن تنصب نفسك حاكمًا وقاضيًا على الناس، وتزن لهم ما لن يزنه الله لهم إلا يوم القيامة، ثم تخرج من ميزانك لتنصب نفسك مقام صاحب الصولجان، فتمد السيف والنطع، وتأمر الناس فيتسقطوا لك الحجارة، حتى إذا اجتمع الحفل: بدأت وليمة الرجم على الصليب.
كثير ممن تراهم اليوم تحوطهم المسكنة، ويحف بهم الفقر؛ يظهرون أنهم لا حول لهم ولا قوة = ليسوا كذلك في قلوبهم، وما قعد بهم إلا العجز وفقدان السطوة، وإلا ففي قلوبهم من الكبر والظلم وإرادة الأذى للخلق ما الله به عليم.
وفي مثل هذه الحال قال أبو الطيب:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد … ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ
ترى هؤلاء تضيق وجوههم وقلوبهم وألسنتهم بالناس، لا يستطيع الواحد منهم ضرك إلا فعل، فقط لو يملك، ولتعرفنهم في لحن القول والفعل، يؤذيك لا تدري فيم وعلام؟!
كثير من الناس جبروته وكبره وخيلاؤه ليس في يده، وإنما في قلبه. فاطلب قلبك وطهره، ولا يكن حلمك وصبرك وكفك أذاك من عمل المضطر العاجز، بل من عمل العابد الخاضع لربه.
فر من حفلات الرجم على الصليب هذه، واعلم أنه لا تصدق وتكون في محلها إلا قليلًا، أما غالب أحوالها= فهي دهس للمشاعر الإنسانية، واستخفاف بحق الناس في الرحمة والإعذار والتفهم، فلا يستخفنك الذين لا يعدلون، ولا تكن ممن نراهم اليوم مساكين، وهم يبعثون يوم القيامة فيأخذهم الله أخذه للجبارين الظالمين المتكبرين.