
أحمد سالم
من هم الأشاعرة؟
العقيدة، أو التوحيد أو الإيمان، كلُّها أسماء لعلم واحد، والمفترض أن عناية هذا العلم من حيث الأصل هي بموضوعات الإيمان المذكورة في حديث جبريل: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . فتعتني مباحث هذا العلم بشرح كل ركن من أركان الإيمان، والمسائل والأدلة المتعلقة بكل ركن .
وقد اختلفت الاتجاهات الإسلامة في تراثنا حول قضايا ومسائل هذا العلم، فنشأت فرق تقول في هذه القضايا بأقوال شديدة الضلال وهم: الخوارج والرافضة والجهمية والمعتزلة.
ووقف في مجابهتهم السلف الصالح بداية من الصحابة فالتابعين وأتباعهم فردوا على شبههم بالوحي قرآنًا وسنة.
في القرن الثالث الهجري حصلت مواجهة عنيفة بين المعتزلة وهم أكثر هذه الفرق إنتاجًا وأعمقها بناء وبين أهل الحديث الذين رفعوا راية وراثة علم السلف من الصحابة فمن بعدهم، واستوى بصورة تامة مصطلح أهل السنة في مقابل تلك الفرق البدعية كلها.
ثم كان هناك رجل اسمه: عبد الله بن سعيد بن كلاب، أنشأ أقوالًا هي وسط بين عقائد وأقوال المعتزلة وبين أقوال أهل الحديث.
وتأثر بابن كلاب رجلان هما:
أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي، وهما من أهل القرن الرابع الهجري.
وتبعهما اتجاهان علميان دان بهما كثير من علماء المسلمين منذ القرن الخامس الهجري وهما الأشاعرة والماتريدية.
وحاصل مذهب الاتجاهين الوارثين لطريقة ابن كلاب: أنه تقريرات في قضايا ومسائل الاعتقاد فيها اختيار لأقوال توسطت بين مذهب المعتزلة وبين مذهب أهل الحديث، وهذا التوصيف هو الصواب في الجملة ولكن يزعم بعض المنتسبين للاتجاهين أن الاتجاهين يتفقان مع أهل الحديث، وهذا في الواقع ليس صوابًا بل الصواب ما حققه ابن تيمية أن مذهب أهل الحديث مغاير لهؤلاء.
ووفقًا لتصور ابن تيمية الذي نرى صوابه في الجملة:
في مسائل الاعتقاد هذه، طريقة أهل الحديث هي في الجملة طريقة الصحابة والتابعين وأتباعهم، وأما طريق الأشاعرة والماتريدية ففيها موافقات لطريقة السلف وفيها مخالفات هي حاصل عملية تلفيقية امتزجت فيها أقوال المعتزلة بأقوال الكلابية ببقايا من أقوال أهل الحديث، فأنتجت أقوالًا في مسائل صفات الله ومسائل القدر وبعض مسائل النبوات= مخالفة للنصوص القطعية ومخالفة لنصوص السلف وتقريرات أهل الحديث.
ومع قيام دول الباطنية والتتر امتزجت بعض تيارات الأشعرية والماتريدية بتصوف القبور والاستغاثة بالأولياء فدخل عليهما مكون خرافي شركي فيه إحياء للوثنية القديمة مع إلباسها لبوس الشرع.
فصار حاصل الخلاف مع الأشاعرة والماتريدية في ثلاثة مجالات:
الأول: قضايا الصفات والقدر والنبوات.
الثاني: مسائل التصوف الشركي والاستغاثة بالأولياء..
الثالث: مسائل متفرقة في بدع القبور والأضرحة وبدع التعبد والتعصب المذهبي.
ومجموع هذه الثلاثة هو ما شكل معالم الصراع بين السلفية المعاصرة والأشاعرة والماتريدية، وكلا طرفي الصراع قصر في أبواب من العلم والعدل وسياسة الخلاف، لكن هذا لا ينبغي أن يلفتنا على أن أصل الخلاف خلاف عظيم ومهم يتعلق بحقيقة فقه ما أتى به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
واعتقادي هو أنَّ طريقة أهل الحديث هي أصح الطرق في تحرير تلك الأبواب، وأنَّها من حيث الواقع أقرب الطرق لِـمَا تدلُّ عليه النصوص، ولِـمَا كان عليه صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ الخلاف في تلك الأبواب كثير منه لا يسوغ، وإن أمكن إعذار المخالف فيها والشهادة له بإرادة الحق من جهة الله والرسول لكنه أخطأ هذا الحق خطأ لا يبيح الوقيعة في قصده.
وهذا الخلاف والجدل حوله لم يعد هو نفسه مبحث العقيدة الموصوف في أول سطرين، بل هو فرع آخر من المعرفة هو علم الكلام، وهذا العلم ينبغي أن يكون الخوض فيه والجدل في موضوعاته خاصًا بساحات البحث ومتخصصي الباحثين، أما أن يسمى العقيدة وأن يمضغه أطفال التعلم في أفواههم ويجعلونه هوية للذات وقضية للعيش= فهو صورة أخرى من صور اختلال أولويات العلم والعمل.
مقتطفات أخرى
والغلبة الدنيوية حين تفوت أهل المقامات العالية من المؤمنين = فهذا من القرح الذي يُبتلى به الناس على قدر دينهم، فمن عظم دينه اشتد بلاءه لكنهم رغم هزيمتهم= هم الأعلون المنصورون حقا وإن لم يغلبوا تلك الغلبة؛ فإن الله مظهر دينه ولابد، معذب أعداءهم ولابد.
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين.
والحقيقة: أن فوات الغلبة الدنيوية وعدم تحصيل أهل المقامات العالية من المؤمنين لها= كثير جدا في تاريخ الإسلام، وليس نادراً أو قليلاً، بل أكثر الغلبة الدنيوية في تاريخ الإسلام لم تكن للأكمل إيماناً ولا للأجيال الأحسن والأفضل.
فالمحكم هاهنا: أن عوامل الغلبة الدنيوية كثيرة متعددة، وتتداخل فيها موازنات شتى، وحكم لله متعددة؛ فإنه سبحانه لو جعل النصر بالسيف للمؤمنين كثيرًا غالبًا= لما كانت الدنيا دار امتحان، وبالتالي: فما يطلقه الناس من معادلات رياضية هنا فإن فعل الله لا يجري على أهوائهم فيها؛ فإن الله لا يعجل لعجلة أحد، وحكمته البالغة تجمع بين الحال والمآل وبين موضع الامتحان في الدنيا وموضع الجزاء الأعظم في الآخرة، ولكن الناس إذا هُزموا فتنوا أنفسهم؛ لأنهم يعبدون السيف ويسبحون بحمد الغالب.
ومن دقائق فقه الوحي: أن النصر مستمر لا ينقطع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلابد من طائفة منصورة لا تزال من أمته قائمة على الحق، وقيامها على الحق وإظهار الدين هو ذلك النصر الذي لا يتخلف أبدا وليس النصر الذي لا يتخلف هو الغلبة الدنيوية والتمكين فإن هذا يقع ويزول.
وإن الغلبة المعجلة لفئة معينة في الدنيا تحصل للمؤمن وللكافر وتحصل للأكمل إيمانا والأنقص إيماناً وهي ضرب من النصر شديد القابلية للمتغيرات عصي على المعادلات الرياضية، أما النصر حقاً وصدقا لا يتخلف عن القوم المؤمنين قط فهو ما يكتبه الله للمؤمنين من الفوز في الآخرة والهداية للحق والإيمان في الدنيا والعاقبة لهم على الكافرين ولو بعد حين وقرون وسنين.
ومن أبصر هذه الحقائق التي هنا= نجاه الله من فتنة الذين قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً.
من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره ، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة؛، فإن ذلك (أي حصول اليسر والفرج) لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين= فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه.
ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرب باب سيدك.
وقال بعض الشيوخ: أنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك.
لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت، وفي بعض الإسرائيليات، يقول الله: يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
ابن تيمية.